خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير غدا 8 أغسطس 2025م ـ 14 صفر 1447هـ – مصر نيوز

حددت وزارة الأوقاف موضوع خطبة الجمعة غدا 8 أغسطس 2025م، الموافق 14 صفر 1447هـ، بعنوان: “لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ.. وما كان الرِّفْق فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ“، مشيرة إلى أن الهدف المراد توصيله، هو التوعية بخطر الغلو والتشدد على الفرد والمجتمع.
وقالت وزارة الأوقاف، إن موضوع الخطبة الثانية، يتحدث خلاله الأئمة عن أهمية الصداقة، داعية جميع الأئمة الالتزام بموضوع خطبة الجمعة القادمة نصًا أو مضمونًا على أقل تقدير.
وينشر “المصري الآن” نص خطبة الجمعة غدا 8 أغسطس 2025م الموافق 14 صفر 1447هـ، للدكتور خالد بدير.
عناصر خطبة غد الجمعة القادمة 8 أغسطس 2025م، للدكتور خالد بدير، بعنوان : لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ.. ومَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ:
أولًا: الإسلامُ دينُ اليسرِ والرفق.
ثانيًا: مظاهرُ وصورُ اليسرِ والرفقِ في الإسلامِ.
ثالثًا: آثارُ الغلُوِّ والتشددِ على الفردِ والمجتمعِ.
المـــوضــــــــــوعُ
الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأنَّ سيِّدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ﷺ. أمَّا بعدُ:
أولًا: الإسلامُ دينُ اليسرِ والرفقِ.
إنَّ دينَنَا الحنيفَ دينُ اليُسرِ والرفقِ، فهو قائمٌ على اليسرِ وعدمِ المشقةِ أو التشددِ فيهِ، فالتيسيرُ على العبادِ مرادُ اللهِ، والمشقةُ لا يريدُهَا اللهُ لعبادِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.[البقرة: 185]، ومِن يُسرِ الإسلامِ أنَّ اللهَ لم يكلفْ هذهِ الأمةَ إلّا بمَا تستطيعُ، قالَ تعالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.(البقرة: 286)، ويقولُ ﷺ: ” إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ برِفْقٍ”. (البيهقي والبزار بسند فيه ضعف).
ولأهميةِ اليسرِ في الشريعةِ الإسلاميةِ عنونَ لهُ الإمامُ البخاريُّ بابًا خاصًّا في صحيحِهِ وسمَّاهُ: ” بابُ قولِ النبيِّ ﷺ: يسِّرُوا ولا تُعسِّرُوا وكان يحبُّ التخفيفَ واليسرَ على الناسِ .” وساقَ عدةَ وصايَا وشواهدَ وأدلةً ليُسرِ النبيِّ ﷺ ورحمتِهِ بأمتهِ منها: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:” مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنْ الْآخَرِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا؛ فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ.” (البخاري ومسلم واللفظ له). قال صاحبُ عونِ المعبودِ:” فيهِ استحبابُ الأخذِ بالأيسرِ والأرفقِ ما لم يكنْ حرامًا أو مكروهًا.” وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ فقَالَ لَهما:” يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا”.(متفق عليه). وأنتَ ترَى أنَّ النبيَّ ﷺ جمعَ بينَ الشيءِ وضدّهِ تأكيدًا، فإنَّهُ كان يكفِي قولهُ:” يسِّرا”؛ وإنَّمَا ذكرَ الضدَّ: ”ولا تعسِّرَا” تأكيدًا للأمرِ. يقولُ الإمامُ النوويُّ:” إنَّما جمعَ في هذهِ الألفاظِ بينَ الشيءِ وضِدِّهِ؛ لأنَّهُ قد يفعلهُمَا في وقتينِ، فلو اقتصرَ على (يسِّرَا) لصدقَ ذلك على مَن يسَّرَ مرةً أو مراتٍ، وعسّرَ في معظمِ الحالاتِ، فإذا قالَ: ( ولا تعسِّرَا )، انتفَى التعسيرُ في جميعِ الأحوالِ مِن جميعِ وجوهِهِ، وهذا هو المطلوبُ .” أ.ه
وفي مقابلِ التيسيرِ في الدينِ نهَى الشارعُ الحكيمُ عن التشددِ والغلوِّ فيه، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضيَ اللهُ عنهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:” إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وشيء مِنَ الدُّلْجَةِ “. (البخاري ومسلم). يقولُ الحافظُ بنُ رجبٍ:” معنى الحديث: النهيُ عن التشديدِ في الدينِ، بأنْ يحمِّلَ الإنسانُ نفسَهُ مِن العبادةِ ما لا يحتملهُ إلّا بكلفةٍ شديدةٍ، وهذا هو المرادُ بقولِهِ ﷺ:” لن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلّا غلبَهُ” يعني: أنَّ الدينَ لا يُؤخذُ بالمغالبةِ، فمَن شادَّ الدينَ غلبَهُ وقطعَهُ.” أ.ه
ثانيًا: مظاهرُ وصورُ اليسرِ والرفقِ في الإسلامِ.
إنَّ الدينَ الإسلاميَّ الحنيفَ دينُ اليسرِ والرفقِ وعدمِ التشددِ في جميعِ المجالاتِ:
ففِي مجالِ العباداتِ عامةً والصلاةِ خاصةً لتكررِهَا في كلِّ يومٍ، نتمثلُ أمرَ الرسولِ ﷺ في التخفيفِ والتيسيرِ، فقد روي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلاَةَ، فَقَرَأَ بِهِمُ البَقَرَةَ، قَالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلاَةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا، فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا البَارِحَةَ، فَقَرَأَ البَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ” يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ – ثَلاَثًا – اقْرَأْ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى وَنَحْوَهَا “. (البخاري). يقول الإمامُ ابنُ حجرٍ:” فيهِ استحبابُ تخفيفِ الصلاةِ مراعاةً لحالِ المأمومين”. (فتح الباري).
ونحن نعلمُ منزلةَ سيدِنَا معاذٍ رضيَ اللهُ عنهُ، وحبَّ الرسولِ ﷺ لهُ، وهو أعلمُ الناسِ بالحلالِ والحرامِ، وكان ﷺ يردفُهُ خلفَهُ على الدابةِ حُبًّا في صحبتِهِ، ومع ذلكَ عاتبَهُ وعنفَهُ لمَّا أطالَ على الناسِ في الصلاةِ كمَا ذُكِرَ.
وفي مجالِ الصيامِ: كان ﷺ يواصلُ الصيامَ لربِّهِ تعالى، واتبعَهُ الصحابةُ رضي اللهُ عنهم واقتدُوا بهِ في الوصالِ، فنهاهُم رحمةً ورأفةً بهِم وشفقةً عليهم، وتيسيرا لهم في أمر الصيام. فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ” نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟! إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ؛ فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ؛ فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ ؛ كَالتَّنْكِيلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا ”. ( البخاري ).
ولذلك نهاهُم ﷺ عن صيامِ الدهرِ أبدًا أو قيامِ الليلِ أبدًا أو التبتلِ، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».(البخاري). وهذا عبدُاللهِ بنُ عمروٍ جعلَ يساومُ النبيَّ ﷺ في الصيامِ والقيامِ، فعنهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ: لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ؛ صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ. فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ. فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً قَالَ: فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام؟ قَالَ: نِصْفَ الدَّهْرِ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ ﷺ”(البخاري).
وهكذا بلغتْ رحمةُ الرسولِ ﷺ بأمتِهِ حدًّا لا يتخيلُهُ عقلٌ، حتى إنَّ الأمرَ وصلَ إلى خوفِهِ عليهِم مِن كثرةِ العبادةِ!! ومع أنَّ التقربَ إلى اللهِ والتبتلَ إليهِ أمرٌ محمودٌ مرغوبٌ، بل هو مأمورٌ بهٍ، لكنَّهُ ﷺ كان يخشَى على أمتِهِ مِن المبالغةِ في الأمرِ فيفتقدُون التوازنَ في حياتِهِم، أو يصلُ بهم الأمرُ إلى المَللِ والكسلِ، أو يصلُ بهم الحدُّ إلى الإرهاقِ الزائدِ عن طاقةِ الإنسانِ، لذلك رأيناهُ كثيرًا ما يُعرِضُ عن عملٍ مِن الأعمالِ، مُقرَّبٍ إلى قلبِهِ، محببٍ إلى نفسِه، لا لشيءٍ إلّا لخوفِهِ أنْ يُفرَضَ على أمتِه فيعنتهُم ويشقّ عليه؛ تقولُ أمُّ المؤمنينَ عائشةُ: “إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ”[البخاري ومسلم]، ولذلك كان كثيرًا ما يقولُ كلمةً: “لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي”، دلالةً على أنَّهُ يحبُّ الأمرَ، ولكنَّهُ يخشَى الفتنةَ على الأمةِ، فانظرْ كيف كان لا يخرجُ في كلِّ المعاركِ لكي لا يتحرَّجَ الناسٌ في الخروجِ في كلِّ مرةٍ، وكيف كان لا يؤخرُ صلاةَ العشاءِ إلى منتصفِ الليلِ، وكيف رفضَ الخروجَ إلى قيامِ الليلِ جماعةً في رمضانَ خشيةَ أنْ يُفرَضَ على المسلمين، وكيف تأخرَ في الردِّ على مَن سألَ عن تكرارِ الحجِّ خشيةَ فرضِهِ في كلِّ عامٍ، وهكذا…
وهذه رسالةٌ لكلِّ متشددٍ في أمورِ دينِهِ أنْ يتأسّىَ بالرسولِ ﷺ في يسرِهِ ورفقِهِ بأمتِهِ، وتركِ التشددِ في الدينِ؛ لأنَّ للتشدّدِ في الدينِ والفهمِ الخاطئِ للنصوصِ الشريعةِ الغراءِ آثارًا وخيمةً وأضرارًا جسيمةً على الفردِ والمجتمعِ كما سيأتي.
ثالثًا: آثارُ الغلُوِّ والتشددِ على الفردِ والمجتمعِ.
للتشددِ والغلوِّ في الدينِ آثارٌ وخيمةٌ وأضرارٌ جسيمةٌ على الفردِ والمجتمعِ:
منها: العجزُ عن العبادةِ: لأنَّ العِبادةَ إذا فُعِلَتْ بِغُلُوٍّ ومشقةٍ، انقلبتْ إلى نفورٍ وعجزٍ، وقد قالَ اللهُ تعالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. [البقرة: 185]. وهذا ما حدثَ لسيدِنَا عبدِاللهِ بنِ عمروٍ في كبرِ سنِّهِ حيثُ قالَ: ” فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللهِ ﷺ ». (البخاري ومسلم). وفي ذلكَ يقولُ الإمامُ ابنُ حجرٍ رحمَهُ اللهُ:” لا يتعمَّقُ أحدٌ في الأعمالِ الدِّينيةِ ويتركُ الرِّفقَ إلّا عجَزَ وانقطعَ”. (فتح الباري). ويقولُ الإمامُ ابنُ القيّمِ: “كلُّ مَن شدّدَ على نفسِهِ شدّدَ اللهُ عليهِ، والدينُ لا يحتملُ التعنتَ، بل هو مبنيٌّ على الرفقِ والرحمةِ”. (مدارج السالكين).
ومنها: تمزيقُ وحدةِ المسلمينَ: ولا شكَّ أنَّ ذلكَ يؤدِّي إلى التنازعِ والخلافِ، قالَ اللهُ تعالَى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}. [الأنفال: 46]، قال ابنُ كثيرٍ:” أي: لا تختلفُوا فتفشلُوا وتزولَ قوتُكُم وسلطانُكُم”.
فالغلوُّ يُحوِّلُ أبناءَ الصفِّ الواحدِ إلى خصومٍ متنازعينَ، يكفّرُ بعضُهُم بعضًا، ويطعنونَ في دينِ إخوانِهِم، حتى تنشغلَ الأمةُ بصراعاتِهَا الداخليةِ. وقد قالَ ﷺ: “لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ». (البخاري).
ومنها: الجهلُ بالنصوصِ وسفكُ الدماءِ: لأنَّ مِمَّا يذهبُ بأمنِ الناسِ انتشارَ المفاهيمِ الخاطئةِ حيالَ نصوصِ القرآنِ والسنةِ، وعدمَ فهمهمَا بفهمِ السلفِ الصالحِ، وهل كُفِّرَ الناسُ وأُريقتْ الدماءُ، وقُتِلَ الأبرياءُ وخُفرتْ الذممُ بقتلِ المستأمنينَ وفُجِّرتْ البقاعُ، إلّا بهذهِ المفاهيمِ المنكوسةِ، والأفكارِ المتطرفةِ المعكوسةِ؟!!
فهُم بجهلِهِم المركبِ بمسائلِ الشريعةِ- ولا سيّمَا المسائلُ الدقيقةُ التي لا يحسنُهَا إلَّا العلماء – يكفِّرونَ مَن شاءُوا ولا يفرقونَ بينَ كفرٍ أصغر أو أكبر، أو كبيرةٍ وصغيرةٍ، ولعلَّ الجهلَ بأحكامِ الشريعةِ مِن أهمِّ صفاتِ الخوارجِ الذينَ كانُوا أولَ مَن تولَّى وزرَ التكفيرِ في هذه الأمةِ، حينَ كفَّرُوا أصحابَ النبيِّ ﷺ، فقد وصفَهُم ﷺ بقولِهِ:” يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ”. (متفق عليه). يقولُ الإمامُ القرطبيُّ منددًا بضلالةِ الخوارجِ وتكفيرِهِم الناس: “ويكفيكَ مِن جهلِهِم وغلوهِم في بدعتِهِم حكمهُم بتكفيرِ مَن شهدَ لهُ رسولُ اللهِ ﷺ بصحةِ إيمانِهِ وبأنَّهُ مِن أهلِ الجنةِ”. وهل هناكَ جهلٌ مركبٌ بعدَ هذا الجهلِ؟!!! يقولُ الحسنُ البصريُّ: إنَّ قومًا طلبُوا العبادةَ وتركُوا العلمَ حتى خرجُوا بأسيافِهِم على أمةِ محمدٍ ﷺ ولو طلبُوا العلمَ لحجزَهُم عن ذلكَ .أ.هـ.
ومنها: فتحُ مداخلَ للشيطانِ: فالشيطانَ يدخلُ لابنِ آدمَ مِن طريقَيِ الإفراطِ أو التفريطِ، كي يفسدَ عليهِ دينَهُ وحياتَهُ. يقولُ ابنُ القيّمِ -رحمَهُ اللهُ-: “ما أمرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- بأمرٍ، إلَّا وللشيطانِ فيهِ نزغتانِ: إمَّا تقصيرٌ وتفريطٌ، وإمَّا إفراطٌ وغلوٌّ، فلا يُبالِي بمَا ظفِرَ مِن العبدِ مِن الخطيئتينِ”. (الوابل الصيب من الكلم الطيب). وقال الأوزاعيُّ -رحمَهُ اللهُ-: “مَا مِن أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ بهِ، إلّا عارضَ الشيطانُ فيهِ بخصلتينِ، ولا يُبالِى أيُّهمَا أصابَ: الغلوُّ، أو التقصيرُ”.
ومِن هنَا ندعُوا الجميعَ إلى فهمِ مقاصدِ الشريعةِ الغراءِ، ومراعاةِ التيسيرِ والرفقِ وعدمِ التشددِ في الدينِ، ونشرِ قيمِ الإسلامِ وأخلاقِهِ وسماحتِهِ، وتطبيقِ ذلكَ عمليًّا على أرضِ الواقعِ؛ لنكونَ دعاةً للغيرِ بأفعالِنَا قبلَ أقوالِنَا.
نسألُ اللهَ أنْ يلهمَنَا رشدَنَا، وأنْ يجنبنَا الجورَ والشططَ.. وأنْ يحفظَ مصرَنَا مِن كلِّ مكروهٍ وسوء.
اقرأ أيضا:
خطبة وزارة الأوقاف غدا الجمعة 8 أغسطس 2025م الموافق 14 صفر 1447هـ
الأوقاف تنظم 998 قافلة دعوية بمراكز الشباب عن الاحتيال الإلكتروني
مفتي الجمهورية: الاهتمام بالفضاء من منظور شرعي يعكس رؤية واعية لمقاصد الشريعة
الأزهر: انطلاق أعمال ملتقى النوازل الفقهية المستجِدة لأحكام الفضاء
شراء الكتب المدرسية المستعملة بسعر رخيص.. مفتي الجمهورية يوضح الحكم
خطبة الجمعة القادمة لوزارة الأوقاف 8 أغسطس 2025م ـ 14 صفر 1447هـ
حكم تصدق الزوجة من مال زوجها دون علمه.. مركز الأزهر للفتوى يجيب
وزير الأوقاف يعتمد 81 خطيبا من حملة المؤهلات العليا والدكتوراه والمحالين للمعاش
فتوى تاريخية.. حكم المنقولات التي اشتراها الزوج خارج “القائمة”
حكم استمرار الوارث في دفع ثمن شقة بالتقسيط.. مفتي الجمهورية يوضح
حدود التعارف بين الشاب والفتاة قبل الخطبة والزواج.. دكتور شوقي علام يبين الحكم
ما حكم الموظف الذي يطلب مالا لإنهاء خدمات عملاء مؤسسته؟.. مفتي الجمهورية يوضح
قراءة القرآن في جماعة.. دكتور شوقي علام يبين الحكم
المصدر : وكالات